جلعاد أردان- من التهريج في الأمم المتحدة إلى زعامة الليكود؟

المؤلف: د. عبد الله معروف08.11.2025
جلعاد أردان- من التهريج في الأمم المتحدة إلى زعامة الليكود؟

قبل سنوات قليلة، لم يكن اسم جلعاد أردان مألوفًا للكثيرين خارج الأوساط السياسية الإسرائيلية. لكن مع توليه منصب سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة، طفا على السطح نجمه، وإن كان ذلك بفضل مواقف مثيرة للجدل بل وحتى "حركات بهلوانية" كما وصفها البعض، داخل أروقة المنظمة الدولية على مدار السنوات الأربع الماضية.

الغريب في الأمر أن هذا الشخص لم يكن يحظى بشهرة واسعة لدى الرأي العام العربي، حتى عندما كان يشغل منصبًا وزاريًا بالغ الأهمية والحساسية في حكومة نتنياهو السابقة، تحديدًا بين عامي 2015 و2020، ألا وهي وزارة الأمن الداخلي. تلك الوزارة التي يرأسها اليوم، ويا للمفارقة، المتطرف إيتمار بن غفير، والذي قام بتغيير اسمها إلى "وزارة الأمن القومي".

عندما قرر نتنياهو إيفاد أردان إلى نيويورك لتمثيل إسرائيل في الأمم المتحدة في مايو/أيار من عام 2020، بعد مرور شهرين فقط على انتخابات الكنيست في ذلك العام، رأى العديد من المحللين والمراقبين أن الهدف الأساسي وراء هذه الخطوة هو إبعاد أردان عن الساحة السياسية الداخلية في إسرائيل، ربما خوفًا من طموحاته المتنامية.

ففي ذلك الوقت، لم يكن أردان يخفي رغبته الجامحة في الترشح لرئاسة حزب الليكود، والسعي لتقديم نفسه كبديل لنتنياهو، مستندًا في ذلك إلى ما اعتبره إنجازات كبيرة حققها خلال فترة توليه وزارة الأمن الداخلي. لقد كان يرى نفسه بمثابة المُجدد الأكبر والأقوى لعقيدة الشرطة الإسرائيلية في القدس، وأحد أكثر وزراء الأمن الداخلي تأثيرًا في تغيير أساليب عمل شرطة الاحتلال وتكتيكاتها، ليس فقط في القدس، بل في جميع مناطق الخط الأخضر. لذلك، رأى نتنياهو أن الحل الأمثل يكمن في إبعاده إلى نيويورك، في خطوة تشبه "النفي السياسي".

لكن أردان تمكن من قلب الطاولة في نيويورك، وتحول إلى نجم تلفزيوني وإعلامي بامتياز، حيث كان يستغل كل مناسبة وكل منصة للإدلاء بتصريحات مثيرة أو القيام بحركات استعراضية، لطالما وُصفت بالبهلوانية والتهريجية السمجة على منبر الأمم المتحدة. من بين هذه الحركات المثيرة للجدل، نذكر قيامه بحمل أحد قرارات الأمم المتحدة وإلقائه في سلة المهملات أمام مرأى ومسمع العالم أجمع، أو إقدامه على تمزيق ميثاق الأمم المتحدة احتجاجًا على التصويت بقبول عضوية فلسطين الكاملة في المنظمة، أو توجيهه وابلاً من الشتائم والانتقادات اللاذعة لجميع دول العالم دون أدنى خجل.

ناهيك عن الحركة التي أثارت موجة غضب عارمة في أنحاء العالم، بل وحتى داخل مؤسسة "الكارثة والبطولة" في إسرائيل نفسها، عندما ارتدى الشارة الصفراء التي كان اليهود يُجبرون على ارتدائها في ألمانيا النازية خلال أحداث الهولوكوست. وبلغت ذروة تصرفاته المثيرة للجدل بإطلاقه تصريحات صارخة، مثل دعوته الأخيرة إلى تدمير مبنى الأمم المتحدة وتسويته بالأرض!

قد تبدو هذه الحركات للوهلة الأولى صبيانية وسخيفة في نظر المراقبين والدبلوماسيين، إلا أنها كانت دائمًا مقصودة ومدروسة من قبل أردان. يبدو أنه أدرك تمامًا هدف نتنياهو من إبعاده مسافة تسعة آلاف كيلومتر عن مسرح السياسة في تل أبيب، ولذلك صمم على ألا يمنح نتنياهو الفرصة لتحقيق مبتغاه وتغييبه عن الساحة. وبدلاً من ذلك، سعى جاهدًا لاستغلال أية فرصةٍ لخطف الأضواء وتسليطها عليه، سواء عبر حركةٍ هنا أو كلمةٍ هناك، بنفس الأسلوب الشعبوي الذي يتبعه إيتمار بن غفير، والذي دفع بعض خصومه في الداخل الإسرائيلي إلى تلقيبه بـ "وزير التيك توك".

وبدلاً من أن يخفت اسم جلعاد أردان في الداخل الإسرائيلي، رأيناه يلمع عالميًا بفضل شعبيته وأسلوبه المتعجرف واللامبالي، وهو الأسلوب الذي يستهوي أتباع اليمين الإسرائيلي المتطرف، الذين يعتقدون أن التفوق العرقي والديني هو ما يميز الإسرائيليين عن بقية العالم.

لذلك، ومع اقتراب نهاية مهمة أردان باستقالته، والتي جاءت في أعقاب فضيحة مالية لم تحظ بالتغطية والمتابعة الكافية في الساحة الإسرائيلية، سعى جاهدًا للفت الأنظار إليه في اللحظات الأخيرة. فألقى خطابه الوداعي الذي ختمه كعادته بتوجيه شتائم وإهانات للأمم المتحدة، واتهامها باللاسامية، والافتخار بجيشه الذي اعتبره "الأكثر أخلاقيةً في العالم"!

ثم قام بنشر مقطع فيديو من أروقة مبنى الأمم المتحدة يهاجم فيه المعرض الذي أقيم في قاعة مدخل المبنى بمناسبة اليوم العالمي لإحياء ذكرى ضحايا الإرهاب وإجلالهم، والذي يصادف 21 أغسطس/آب من كل عام. والسبب وراء هذا الهجوم هو أن المعرض تضمن صورة لضحية فلسطينية قُتلت خلال عمل إرهابي في نيوزيلندا، بينما لم يتم نشر أي صورة لإسرائيليّ ضحية "للإرهاب الفلسطيني" على حد قوله.

واستغل أردان هذه المناسبة للدعوة صراحةً إلى إلغاء منظمة الأمم المتحدة وتأسيس منظمة بديلة لها، ليظهر بعد ذلك مباشرةً في مقابلة مع قناة i24 الإسرائيلية ويدعو صراحةً إلى تدمير مبنى الأمم المتحدة وتسويته بالأرض، وإغلاق كافة مقرات الأمم المتحدة والمؤسسات التابعة لها في الأراضي المحتلة.

لم تكن هذه التحركات كلها عشوائية أو اعتباطية، ففي نفس المقابلة التي بثتها الشبكة الإسرائيلية وتناقلت فحواها بعض الصحف الإسرائيلية، وخاصةً الدعوة الصارخة إلى تدمير مبنى الأمم المتحدة وتسويته بالأرض، حرص جلعاد أردان على أن يعلن أنه يرى نفسه زعيمًا لحزب الليكود بعد نتنياهو. وبهذا، كشف أردان أخيرًا عن حقيقة حركاته الشعبوية وأهدافها الكامنة طوال السنوات الماضية، بل ربما منذ أن تسلم حقيبة الأمن الداخلي في إسرائيل عام 2015.

عندما كان جلعاد أردان وزيرًا للأمن الداخلي في إسرائيل، شهدت فترة ولايته عددًا من الأحداث الخطيرة والمفصلية في الأراضي الفلسطينية. فقد استهل أردان منصبه بمواجهة موجة الطعن بالسكاكين التي اجتاحت القدس خلال أحداث هبّة القدس في ذلك العام. كما أنه كان المسؤول عن شرطة الاحتلال خلال أحداث هبة باب الأسباط والبوابات الإلكترونية في القدس عام 2017، وأحداث هبة باب الرحمة بالمسجد الأقصى المبارك عام 2019.

خلال هذه المرحلة المعقدة والحساسة، شهدت مدينة القدس في ظل وزارة أردان تغييرًا جوهريًا في عقيدة شرطة الاحتلال في المسجد الأقصى. فقد عكف أردان على تعديل وتطوير عمل شرطة الاحتلال لتتحول إلى قوة حماية للمستوطنين في المسجد الأقصى خلال أدائهم عمليات الاقتحام، وهو ما كان جلعاد أردان قد تفاخر به علنًا في مقابلة تلفزيونية على إحدى الشبكات الإسرائيلية خلال انتخابات عام 2020.

وهو كذلك ما جعله مقربًا بشكل واضح لليمين المتطرف الإسرائيلي، وخاصة تيار المستوطنين المتدينين، بالرغم من أنه محسوب على التيار العلماني اليميني المتطرف، لا على التيار الديني لأنه ببساطةٍ ليس متدينًا.

إن تقديم جلعاد أردان نفسه في هذه المرحلة كبديل لنتنياهو، اعتمادًا على تاريخه في وزارة الأمن الداخلي ومواقفه المثيرة للجدل في الأمم المتحدة، قد يزيد من حدة الانقسامات في صفوف اليمين الإسرائيلي نفسه في هذه المرحلة بدلًا من توحيدها خلفه. فأردان جاء ليقدم نفسه اليوم كبديل لنتنياهو، مستندًا في ذلك إلى ظنه بأن اليمين المتطرف الإسرائيلي ما زال يتذكر ما فعله لأجله أثناء وزارته بين عامي 2015 و2020، وبالتالي فهو يعتبر أن وقت سداد الدين قد حان الآن، ليقدم له بالمقابل الدعم اللازم ليأخذ مكان نتنياهو في رئاسة حزب الليكود.

لكن ما يبدو أن أردان قد أخطأ في حساباته في هذه المرحلة هو أن السنوات الأخيرة شهدت صعود منافس شرس وقوي له من قلب تيار الصهيونية الدينية، وهو إيتمار بن غفير، الذي يعلن بوضوح طموحه لقيادة اليمين كله في إسرائيل، لا تيار الصهيونية الدينية وأقصى اليمين المتطرف فقط. وكذلك ظهور بتسلئيل سموتريتش على الساحة الإسرائيلية بقوة، وإن لم يكن قد صرح بعد بأي طموح له بقيادة اليمين في إسرائيل كما فعل بن غفير.

وما دام تيار الصهيونية الدينية، الذي يمثل جماعات أقصى اليمين التي خدمها جلعاد أردان خلال وزارته أيما خدمة، قد تمكن من تصعيد شخصيات من الكتلة الصلبة للتيار لتكون بديلًا لا لنتنياهو فقط بل لحزب الليكود ككل، فلماذا قد يميل أفراد هذا التيار إلى شخص من خارج تيارهم مثل جلعاد أردان، وفي وسعهم أن يكونوا هم على رأس اليمين دون حاجةٍ لأحد؟

لذلك، أرى أن جلعاد أردان لن يكون له حظ كبير في المستقبل مع أفراد تيارات أقصى اليمين المتطرف في إسرائيل. كما أن عودته إلى الساحة السياسية الداخلية في هذه الفترة، لمحاولة منافسة نتنياهو أو إبعاده عن الساحة والحلول محله، أو حتى الانتظار حتى تأتي النهاية السياسية الحتمية لنتنياهو، لن تساعده ليحل محله ويتزعم اليمين الإسرائيلي.

ويبدو لي أن نتنياهو كان أذكى من أردان حين أبعده عن الساحة الداخلية الإسرائيلية، وجعله يلعب في الساحة الدولية بعيدًا عن الداخل الإسرائيلي.

فأردان لم يكسب من كل ذلك إلا ازدراء شعوب العالم وقادتها على حد سواء لمواقفه التهريجية السخيفة. وأظن أنه لم يكسب ود اليمين الإسرائيلي، المنشغل عنه اليوم بمشاريع كبرى يقدّمها أقصى اليمين مباشرةً، وخاصة بوجود شخصية تنظيرية قوية كـ "سموتريتش"، ووجود بديل يقدم نفس الوصفة الشعبوية لأردان، وهو بن غفير. فأردان أصبح خارج اللعبة السياسية في إسرائيل اليوم، ولن يكون له أكثر من ذكريات فيديوهاته التي يمكننا إدراجها ضمن فئة الكوميديا السياسية السوداء.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة